كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



البحث الأول: فإن قيل هذا مبني على عدم اعتبار النسب، وليس كذلك فإن للنسب اعتبارًا عرفًا وشرعًا، حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنبطي، فنقول إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبرًا، وذلك في الحس والشرع والعرف، أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي، وأما في العرف، فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه التفات، إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك، إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى الأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبًا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبًا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينًا عالمًا صالحًا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب، ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين، وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله لأن الله تعالى يقول.
{وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وشرف النسب ليس مكتسبًا ولا يحصل بسعي.
البحث الثاني: ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال؟ نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به، والحسن والسن، وغير ذلك غير ثابت دائم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى.
البحث الثالث: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى: {إِنَّا خلقناكم} فائدة؟ نقول نعم، وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه، ويترتب عليه بعد وجوده، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله، والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة، ويقال هذا عمل فلان، وهذا عمل فلان، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} وفيه وجهان: أحدهما: {جعلناكم شُعُوبًا} متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما: {جعلناكم شُعُوبًا} داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفصائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة، ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان: أحدهما: أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما: أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى: قال تعالى: {إِنَّا خلقناكم} وقال: {وجعلناكم} لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل {شُعُوبًا} فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوبًا للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوبًا يتحقق بعد ما يتحقق الخلق، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية: قوله تعالى: {خلقناكم وجعلناكم} إشارة إلى عدم جواز الافتخار لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه؟ فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى: {إِنَّا هديناه السبيل} [الإنسان: 3] {نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء} [الشورى: 52] فنقول أثبت الله لنا فيه كسبًا مبنيًا على فعل، كم قال الله تعالى: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19].
ثم قال تعالى: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} وأما في النسب فلا الثالثة: قوله تعالى: {لتعارفوا} إشارة إلى قياس خفي، وبيانه هو أنه تعالى قال: إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة: فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفًا صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفًا لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد؟ اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أحدًا لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقال: «العلماء ورثة الأنبياء» أي لا نورث بالانتساب، وإنما نورث بالاكتساب، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقًا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يومًا من بيته يقصد المسجد، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله، أذل وتجل! وأذم وتكرم! وأهان وتعان! فهم الناس بضربه فقال الشيخ: لا هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود لحده، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك!
ثم قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} وفيه وجهان: أحدهما: أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما: أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال: المخلصون على خطر عظيم، والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانيًا ينبغي أن يكون محمولًا على المذكور أولًا في الظاهر فيقال الإكرام للتقي، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول، يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة، فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» نقول التقوى ثمرة العلم قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم، وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له، وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل، ولعله يعبده مخافة الإلقاء في النار، فهو كالمكره، أو لدخول الجنة، فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته، والمتقي هو العالم بالله، المواظب لبابه، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت.
وفيه مباحث:
البحث الأول: الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة للكافر، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام.
نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءادَمَ} [الإسراء: 70] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه، كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة الثاني: ما حد التقوى ومن الأتقى؟ تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهيًا لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة، ومتى ارتكب منهيًا وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق، أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله، فينور الله قلبه، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه، وللأولين النجاة لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا} [مريم: 72] وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} فبين من أعطاه السلطان بستانًا وأسكنه فيه، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعًا بون عظيم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} أي عليم بظواهركم، يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم.
{قالتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
لما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى، وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك، قالت الأعراب لنا النسب الشريف، وإنما يكون لنا الشرف، قال الله تعالى: ليس الإيمان بالقول، إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور، {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} أي انقدنا واستسلمنا، قيل إن الآية نزلت في بني أسد، أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئنًا بالإيمان، وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم، لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك، لأن التقوى من عمل القلب، وقوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} في تفسيره مسائل:
المسألة الأولى:
قال تعالى: {وَلاَ تَقولواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] وقال هاهنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} مع أنهم ألقوا إليهم السلام، نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب، وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلًا هو مرائي، ولا لمن أسلم هو منافق، ولكن الله خبير بما في الصدور، إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم، وقوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} فهو الذي جوز لنا ذلك القول، وكان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم، فقال لنا: أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا لعدم علمكم بما في قلبه.
المسألة الثانية:
لم ولما حرفا نفي، وما وإن ولا كذلك من حروف النفي، ولم ولما يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم، فما الفرق بينهما؟ نقول لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي، تقول لم يؤمن أمس وآمن اليوم، ولا تقول لا يؤمن أمس، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما، فإن قيل مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل، ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما؟ نقول لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية، فإن من قال قام حصل القطع بقيامه، ولا يجوز أن يكون ما قام والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة غير متوقعة، ولا يحصل القطع والجزم فيه، فإذا كان لم ولما يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى فجعل لهما تناسبًا بالمعنى وهو الجزم لفظًا، وعلى هذا نقول السبب في الجزم ما ذكرنا، وهذا في الأمر يجزم كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه، فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغير، وذلك لأن إن تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي، تقول: إن جئتني جئتك، وإن أكرمتني أكرمتك، فلما كان إن مثل لم في كونه حرفًا، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييره معنى الفعل صار جازمًا لشبه لفظي، أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى، فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط، فالجزم إذًا إما لمعنى أو لشبه لفظي، كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {ولكن قولواْ} يقتضي قولا سابقًا مخالفًا لما بعده، كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم {آمنا} فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} فإن كنتم تقولون شيئًا فقولوا أمرًا عامًا، لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم {أَسْلَمْنَا} فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل.
المسألة الرابعة:
المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا؟ نقول بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان، والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرًا آخر غيره، مثاله الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمرًا ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانًا ولا يكون إنسانًا، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، فكذلك المؤمن والمسلم، وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} [الذاريات: 35-36] إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة:
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} هل فيه معنى قوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ}؟ نقول نعم وبيانه من وجوه الأول: هو أنهم لما قالوا آمنا وقيل لهم {لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} قالوا إذا أسلمنا فقد آمنا، قيل لا فإن الإيمان من عمل القلب لا غير والإسلام قد يكون عمل اللسان، وإذا كان ذلك عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا الثاني: لما قالوا آمنا وقيل لهم لم تؤمنوا قالوا جدلًا قد آمنا عن صدق نية مؤكدين لما أخبروا فقال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} لأن لما يفعل يقال في مقابلة قد فعل، ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم بعده ضعيفًا قال لهم {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} يكمل لكم الأجر، والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار، والإيمان إما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل، وإما أن يكون إلهامًا يقع في قلب المؤمن فقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} أي ما فعلتم ذلك، وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهامًا من غير فعلكم فلا إيمان لكم حينئذ.
ثم إنه تعالى عند فعلهم قال: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} بحرف ليس فيه معنى الانتظار لقصور نظرهم وفتور فكرهم، وعند فعل الإيمان قال لما يدخل بحرف فيه معنى التوقع لظهور قوة الإيمان، كأنه يكاد يغشي القلوب بأسرها.
ثم إنه تعالى قال: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ} أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء، وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهمًا، وأعطاه الملك درهمًا أو دينارًا ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل، فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص، بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص.
وفيه تحريض على الإيمان الصادق، لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجرًا فقال: وإن تطيعوا وتصدقوا لا ينقص عليكم، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، وفيه أيضًا تسلية لقلوب من تأخر إيمانه، كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيدًا وآواه حين كان ضعيفًا، ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته، فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر، فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون، غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم، وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة، وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحدًا شيئًا وقال لغيره ماذا تتمنى؟ فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالًا فأعطاه ووفاه، ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه فإن تأذى من ذلك يكون بخلًا وحسدًا، وذلك في الآخرة لا يكون، وفي الدنيا هو من صفة الأرازل، وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به. اهـ.